فصل: باب: كَيفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


كتاب‏:‏ بَدْءِ الوَحْي

باب‏:‏ كَيفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم

الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين‏.‏

قال الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المُغِيْرة بن بَرْدِزْبَه الجُعْفِي البُخَاري رحمه الله تعالى‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏.‏ وليُعْلم أن حديث‏:‏ «كل أمر ذي بال»‏.‏‏.‏ إلخ، اضطربت فيه الألفاظ الواردة، بعضها‏:‏ «باسم الله»، وبعضها‏:‏ «بحمد الله»‏.‏ وخَالَ بعضُهم التعارض، وظن اختلاف الألفاظ اختلاف الحديث‏.‏ والحال أن الحديث واحد، ومع اضطراب كلماته حسَّنه الحافظ الشيخ أبو عمرو بن الصَّلاح، وهو شيخ الإمام النووي، دقيقُ النَّظر، واسع الاطِّلاع، وليس صاحبه النووي مثله في الحديث‏.‏ فالعمل بالحديث إما بصورة الجمع، فيراد ذكر الله، ويؤيده ما ورد في رواية‏:‏ «بذكر الله»، وإما يرجَّح اللفظ الأول، لأن أول ما نزل من القرآن‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ‏}‏، فالتَّأسي به يحصل بالشروع بالبسملة، وأيضاً يؤيده افتتاح كُتُب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الملوك، وكُتُبِهِ في القضايا بالبسملة‏.‏ وراجع «الفتح» و «العمدة» للتفصيل‏.‏

وبالجملة‏:‏ فلا إيراد على الإمام البُخاري في افتتاحه الصحيح بالتسمية دون التحميد، وما يُذكر من حمل الابتداء بالحقيقي في لفظ، وبالإضافي في لفظ، أو العرفي، فلا يُعبأ به، لأن مدارَ ذلك على تعدُّد الحديث‏.‏ وذِكَرُ الاحتمالات التِّسْعةِ من بين صحيح وباطل ههنا كلها من سَقْط الكلام‏.‏

‏(‏باب‏)‏‏:‏ لفظُ الباب مضاف‏.‏ أو مبني كمَثْنَى وثُلاث‏.‏ قال الرَّضِيّ‏:‏ إن المفردات على سبيل التوارد مبنية‏.‏ وقد عَلِمت من عادات المصنِّف رحمه الله تعالى أنه يُصدِّرُ الأبواب بصيغة السؤال، ولا يجيب عنه، بل يوجه النَّاظر إلى الحديث ويكون الجواب فيه‏.‏

‏(‏بَدْء‏)‏‏:‏ مهموز، وقيل‏:‏ بدو، بمعنى الظهور، والأول أولى، لما في بعض النسخ‏:‏ «كيف ابتداء الوحي» ولأنه نظير قوله فيما بعد‏:‏ «بَدْء الأذان» و «بدء الحيض»، فهذا بَدء الوحي على شاكلة أخويه‏.‏ واعتُرضَ عليه، أنه لو قال‏:‏ كيف كان الوحي‏؟‏ لكان أحسن، لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي مطلقاً، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط‏.‏ وأجاب عنه شيخ الهند رحمه الله تعالى أن البدء ههنا عام، سواء كان زمانياً، أو مكانياً، أو باعتبار صفات المَوْحَى إليه، فيدخل فيه سائر ما يتعلق بالوحي، وجواب آخر للشاه ولي الله رحمه الله تعالى فراجعه من تراجمه‏.‏

وما سنح لي بعد الإمعان في صنيعه، والنظر إلى نظائره، كبدء الأذان وبدء الحيض، أن البَدء عنده لا يختصُ بالحصة الابتدائية، بل يعتبر مما يضاف إليه لفظ البدء بما فيه من أحواله أولاً، ثم يضاف إليه لفظ البدء ثانياً، ثم يُسأل عنه أن بدء هذا المجموع كيف كان‏؟‏ وحينئذٍ فيندرج تحته جميع أحواله، وهكذا فعل المصنف رحمه الله تعالى فيما بعد أيضاً‏.‏ فقال‏:‏ «بدء الأذان، وبدء الحيض»، ثم لم يقتصر على أول الحال فقط، بل ذكر حالهما من الأول إلى الآخر، ففهمت من صنيعه أنه لا يريد من لفظ البدء البداية في مقابل النهاية، بل بدؤه بعد أن لم يكن، ووجوده من كَتْم العدم، فهو سؤال عن هذا الجنس بتمامه، أنه كيف بدأ‏؟‏

فالحاصل‏:‏ أن معناه، السؤال عن جنس الوحي، وجنس الأذان، وجنس الحيض، أنه كيف جاء من كتم العدم إلى ساحة الوجود‏؟‏ وحينئذٍ معناه كونه بعد أن لم يكن، لا بدايته قبل نهايته، وهذا التصرف في لفظ البدء مستفادٌ من كلام المصنف رحمه الله تعالى نفسه، لا أني تصرفت في كلامه، وصرفته عن ظاهره‏.‏

وبعبارة أخرى، معناه‏:‏ كيف بدأت تلك المعاملة مع المخلوقات‏؟‏ ولك أن تقول‏:‏ إن بدء الوحي مقصود بالذات، وبقاءه مقصود بالتبع‏.‏ أما معنى الوحي فسيجيء الكلام فيه عن قريب‏.‏

ولعمري أن المصنف رحمه الله تعالى أبدع في بدء كتابه، فصدَّره بالوحي على خلاف دأب المصنفين رحمهم الله تعالى، إشارة إلى أن أول معاملة العبد مع ربه إنما تقوم بالوحي، ثم بالإيمان، ثم بالعلم، ثم بسائر الأعمال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَنُ‏}‏ الآية ‏(‏الشورى‏:‏ 52‏)‏ ثم علَّمَه ما علمه بالوحي، فهو مقدمه للإيمان والأعمال، فهو مقدمٌ طبعاً، فلا بد أن يكون مقدَّماً وضعاً‏.‏

‏(‏وقول الله عزَّ وجل‏)‏ أراد به التوجيه إليه، والرعاية له والاستيناس منه، دون الاستدلال به‏.‏ ثم اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى ربما يذكر قطعة آية ولا يذكرها بتمامها‏.‏ ويكون مقصوده في اللاحق أو السابق، فيتحير هناك الناظر، حيث لا يرى لها مناسبة بالمقام، فاعلم ولا تغفُل‏.‏ وإنما انتخبها المصنف رحمه الله تعالى من بين سائر الآيات لكونها أبسط آية في باب الوحي، والغرض منه بيان مبدأ الوحي، أنه هو سبحانه وتعالى، وأنه إذا كان مبدأ هذا الوحي هو مبدأ وحي نوح عليه السلام والنبيين من بعده، فوجب لأهل الكتابين أن يؤمنوا به كما آمنوا بوحيهم، وأنه لما كان مبدؤهما واحداً، فإنكار هذا الوحي كأنه إنكار لوحيهم أيضاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏كما أوحينا‏)‏ بيان سنة، أي إيحائنا سنة قديمة من لَدن نوح إلى يومنا هذا، وليس بأمر جديد ليتوحش منه متوحش، ويتأخر عنه متأخر‏.‏ وإنما خص نوحاً بالذكر، ولم يذكر آدم عليه السلام، لأن الوحي قبله كان في الأمور التكوينية، ولم يكن فيه كثير من أحكام الحلال والحرام، كما ذكره الشاه ولي الله رحمه الله في رسالته‏:‏ «تأويل الحديث»‏.‏

وذكر الشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى‏:‏ أنه لما هبط آدم عليه السلام من الجنة أعطي بذوراً للزرع، وأكثر أحكامه كانت من هذا القبيل، ثم تغيرت شاكلته من زمن نوح، فنزلت الأحكام والشرائع، كما يُعلم من التفاسير، أن الكفر إنما ظهر في السِّبط السادس من قابيل، وأول رسول بعثه الله تعالى لِزَهْقِهِ هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام ولم يكن قبله كفر، ومن ههنا صار لقبه‏:‏ «نبي الله» فإنه أول نبي بعث لإزهاق الكفر، والناس كلهم الآن من نسلِهِ، فهو آدم الثاني، ومنه نُشر العالم من بعد لفه، كذا ذكره المؤرخون‏.‏

ثم إنه لما بُعث ودعا الناس إلى التوحيد ولم يؤمنوا به، وكان من أمره ما كان، واستقر فُلْكُه على الجُوْديِّ، نزلت الشريعة وبعض من الحلال والحرام‏.‏ فعند النَّسائي من كتاب الأشربة من الطِّلاء- ما يدل على بعض أحكام شريعته عليه الصَّلاة والسَّلام- عن أنس بن سيرين‏.‏ قال‏:‏ سمعت عن أنس بن مالك يقول‏:‏ إن نوحاً صلى الله عليه وسلّم نازعه الشيطان في عود الكَرْم، فقال‏:‏ هذا لي، فاصطلح على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها‏.‏

وإن نوحاً قد كان وضع عود الكَرْم، ومن كل حيوان زوجين حين ركب الفُلْك وطغى الماء، فإذا استوت سفينته ونزل منها نازعه الشيطان في عود الكرم وادّعاه لنفسه، فإن الخمر يتخذ منه، ثم انفصل الأمر كما في الحديث‏.‏

قلت‏:‏ وهو يفيدنا في جواز المُثَلث من الأشربة، فإن الثلث صار لنوح عليه الصلاة والسلام، فيكون حلالاً البتة، وصار الثلثان للشيطان فإن بقي فيه شيء من الثلثين لم يحل، لكون حظ الشيطان باقياً، فإذا ذهب ثُلثاه بقي حق نوح عليه الصَّلاة والسَّلام فيكون حلالاً‏.‏ قال ابن رشيد في «التهافت»‏:‏ إن تعليم القيامة لم يكن قبل التوراة‏:‏ أقول‏:‏ بل هو مدار النبوة، وأساس الأديان السماوية، وشرائع الأنبياء، فلا بد أن يكون تعليمه من بدء الأمر، فإن الشريعة وإن اختلفت، إلا أن أصولها لم تختلف قط‏.‏ وفي التفاسير‏:‏ إن حرمة الخنزيرة كانت من زمن آدم عليه السلام‏.‏ نعم تحتاج أمثال هذه النقول من المفسرين إلى الانتقاد، فكيف بالقيامة واعتقاد حقيتها، فإنها من أصول الدين‏؟‏

شرحُ الحديث على نحو ما قالوا‏:‏

واعلم أن الحديث تكلموا عليه قديماً وحديثاً، وهو من أساس الدين، حتى رُوي عن الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ أنه يدخُلُ فيه نصف العلم‏.‏ ورُوي عن أحمد رحمه الله تعالى‏:‏ أنه ثُلث الإسلام، أو ثُلث العلم‏.‏ وقيل‏:‏ ربعه كما قيل‏:‏

عُمدة الخيرِ عندنا كلماتٌ *** أربعٌ قالهنَّ خيرُ البريه

اتق الشُّبْهات، وازْهَد، ودع ما *** ليس يَعْنِيْك، واعمَلَنَّ بنيه

ونسبهما علي القاري رحمه الله تعالى إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو سهو منه، بل هما لشاعر آخر كما يُعلم من شرح «عقود الجمان» للسيوطي رحمه الله تعالى‏.‏

ثم الحديث مروي عن إمامنا أبي حنيفة أيضاً في «مسنده» بلفظ‏:‏ «الأعمال بالنيات» رواه عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التَّيمي، عن علقمة، عن أبي وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الأعمال بالنيات»‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ورواه بهذا اللفظ ابن حبان في «صحيحه»، والحاكم في «أربعينه»، وصححه‏.‏

واقعته‏:‏ ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها‏:‏ أُمُّ قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها‏.‏ قال‏:‏ فكنا نسميه‏:‏ مهاجرَ أم قيس‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ لم يُصنِّف أحد في شأن ورود الأحاديث، إلا ما بلغني عن أبي حفص العُكْبَري، أنه صنف في هذا الموضوع شيئاً، ولو فعله أحد لنفع جداً‏.‏

وإنما لم يقل‏:‏ «الأفعال بالنيات» لأن بين العمل والفعل فرقاً، فالعمل ساختن والفعل كردن يعني أن العمل فيما يتمادى ويطول، بخلاف الفعل، ولذا قال‏:‏ ‏{‏وَاعْمَلُواْ صَلِحاً‏}‏ ‏(‏المؤمنون‏:‏ 51‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 277‏)‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ افعلوا وفعلوا، دلالة على الدوام والاستمرار‏.‏

ذكر الكلام في الفرق بين النِّيَّة والإرادة‏:‏

واعلم أنَّ المعتبر في الإرادة هو إصدار المراد، ولا يعتبر فيه غرضٌ للمريد، بخلاف النية، فإنها يعتبر فيها غرض، ولذا لا يكاد يُتْرك معها ذكر الغرض، فيقال‏:‏ نويت لكذا، بخلاف الإرادة، فإنها تُستعمل بدون ذكر الغرض أيضاً، فيقال‏:‏ أراد الله سبحانه، ولا يجب معه ذكر الغرض، ولذا لا يقال‏:‏ نوى الله، بل يقال‏:‏ أراد الله‏.‏

أقول‏:‏ حاصله أن النية لما اعتُبر فيها الغرض، فلو أطلق لفظ النية في جنابه تعالى لأوهم تعليل أفعاله بالأغراض، مع أنهم قالوا‏:‏ إن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض وقد مر منا تحقيقه في المقدمة، وأنه لا استحالة في كون أفعاله تعالى معللة بالأغراض، وأن ما زعموه في إبطاله باطل‏.‏ نعم، لما استعمل الإرادة في لسان الشرع دون النية اقتصرنا في الإطلاق على ما ورد به الشرع، ورأينا التحرُّز عما لم يَرِد به الإطلاق أولى‏.‏ وكذا حجروا على إطلاق العزم فيه تعالى، وقد وقع في مقدمة مسلم، وجوَّزَه التِّبَرِيزي، والله تعالى أعلم‏.‏

واعلم أنهم تكلموا على هذا الحديث، وأطالوا فيه الكلام من الجانبين، وحَمَلَهُ كلٌّ على مسائله، وجرَّه إلى مختاراته‏.‏ ولما لم يكن فيه بُدٌّ من التقدير، إذ لا معنى لكون ذوات الأعمال بالنيات، لثبوتها حِساً وصورة من غير اقتران النية بها، فمنا من قدَّر الثَّوار بدليل قوله فيما بعد‏:‏ «فهجرته إلى الله ورسوله» وهذا هو الثواب، ومنا من قدَّر الحكم كشارح «الوقاية»، فمعناه عندنا‏:‏ ثواب الأعمال أو حكم الأعمال بالنيات، على اختلاف التقديرين‏.‏ وقدر الشافعية الصحة، لأن متعلَّقات الظروف لا تكون إلا من الأفعال العامة، والصحة منها، فإن الثواب بعد الصحة، فمعناه عندهم‏:‏ صحة الأعمال بالنيات‏.‏ وعلى هذا فالأعمال عند عدم النيات تصير خالية عن الثواب عندنا وباطلة عندهم‏.‏ ثم بنوا عليه اشتراط النية في الوضوء‏.‏

أقول‏:‏ وكلام شارح «الوقاية» وإن كان أولى من غيره، إلا أنه خلاف الوجدان‏.‏ أما تقدير الثواب والصحة فلا يصح عندي‏.‏

أما الأول‏:‏ فلأن تقدير الثواب يؤدي إلى تخصيصين في الحديث‏:‏ الأول بالدار الآخرة، فإن الثواب والعقاب من أحكام الآخرة‏.‏ والثاني‏:‏ تخصيصه بالطاعات فقط، لأنها هي التي يثاب عليها‏.‏

بخلاف المعاصي، فإنها يعاقب عليها، فلو قلنا‏:‏ ثواب الأعمال بالنيات، يقتصرُ الحديث على أحكام الآخرة، ثم على الطاعات‏.‏ وأحكام الدنيا والمعاصي تخرج عن قضية الحديث ومدلوله، ولا تُبقي له علاقه بها، مع أن الحديث عام قطعاً، فإن المعاصي مذكورة في آخر الحديث صراحةً كما قال‏:‏ «ومن كانت هجرته إلى دنيا»‏.‏‏.‏ إلخ فعُلِم أن الحديث لم يَرِدْ في الطاعات فقط‏.‏ على أن صحة الأعمال والطاعات هي كونها بحيث يترتب عليها الثواب فإذا خلت عن الثواب فقد بطلت، فصار مآل تقدير الثواب والصحة واحداً، فيلزم عليهم ما لزم على من قدَّر الصحة أيضاً‏.‏

والتزمه المصنفون إلا أنهم رأوا فيه نفعاً يسيراً في الجواب عن مسألة النية، فرضوا بهذا النفع اليسير بالضرر الكثير، واختاروا هذا التقدير مع أنه لا يجدي أيضاً كما سيجيء‏.‏

وأما الثاني‏:‏ أي تقدير الصحة فيؤدي إلى تخصيصين أيضاً‏:‏ الأول بأحكام الدنيا، فإن الصحة اسم لاستجماع الشرائط والأركان، بحيث يَسْقط الفرض عن ذمته، وكذا البطلان نقيضه، وهما من أحكام الفقه والدار الدنيا، وحينئذٍ يقتصر الحديث على أحكام الفقه والدار الدنيا، ولا يَشْملُ أحكام الآخرة‏.‏ والثاني أن من الأفعال ما لا يقال فيه‏:‏ صَحَّ أو بَطَلَ، فإن الصحة تجري فيما فيه جهتان، الحِلة والحُرمة، أما الحرام قطعاً أو الحلال قطعاً فلا يقال فيه‏:‏ إنه صح أو بطل، مثل من قتل رجلاً أو زنى أو سرق، فلا يقال فيه‏:‏ إنه صَحّ قلته وزِناه وسرقتُه أو بطل‏.‏ فيكون الحديث ساكتاً عن هذه الأحكام، مع أنه عام لجميع الطوائف كما علمت‏.‏ على أن الصحة والبطلان بهذا الاصطلاح من المصطلحات الحادثة، ولا ينبغي أن يُحمل الحديث على مصطلحات الفنون، بل يجري على صرافة اللغة، هذا كلام على شرحهم‏.‏

أما الكلام على مسائلهم فقال الحنفية‏:‏ إن النية لا تُشترط في الوضوء، وقالوا بصحته بدونها‏.‏ والحديثُ واردٌ عليهم، فقال بعضهم‏:‏ إن الحديث إنما ورد في العبادات دون القُرُبات والطاعات، ونحن نلتزم أن الوضوء بدون النية لا ينعقدُ عبادة‏.‏ أما أنه لا يصلح لكونه مفتاحاً للصلاة، فلا يدل عليه الحديث أصلاً‏.‏

قال الشيخ زكريا الأنصاري‏:‏ العبادة يشترط فيها النية ومعرفة من يُتقرَّب إليه‏.‏ والقُرْبة يُشترط فيها معرفة من يتقرب إليه دون النية، كتلاوة القرآن‏.‏ والطاعة لا يشترط فيها شيء، كالنَّظر الموصل إلى الإسلام‏.‏

ثم أقول مراعياً مسائل الدين إجمالاً‏:‏ إن الدين مركبٌ من خمسة أشياء‏:‏ العبادات، والعقوبات، والمعاملات، والاعتقادات، والأخلاق‏.‏ أما الأخلاق والاعتقادات فالبحث عنهما في فنونهما، والبواقي مذكورة في الفقه‏.‏

أما العبادات فالمقصود منها‏:‏ الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج‏.‏ والنية شرط لصحتها بالإجماع‏.‏

وأما المعاملات فأيضاً خمسة‏:‏ مناكحات، ومعاوضات مالية، وخوصمات، وتركات، وأمانات‏.‏ ولا تُشترط النية لصحتها بالإجماع‏.‏

وأما العقوبات فخمسة أيضاً‏:‏ حد رِدَّة، وقذف، وزنا، وسرقة، وقصاص‏.‏ ولم يَشتَرِط فيها النية واحد منهم‏.‏

فيا ليت شعري كيف زعموا أن الحديث واردٌ علينا وموافق لهم‏؟‏ مع أنهم أخرجوا عنه المعاملات والعقوبات بتمامهما أيضاً، فلو كان الحديث يرد علينا في الوسائل فقط، فقد ورد عليهم في المعاملات والعقوبات‏.‏

ثم أقول‏:‏ إن من الوسائل ما يشترط فيها النية عندنا أيضاً، كالتيمم، والوضوء بالنَّبيذ، فإنها شرط للصحة فيهما‏.‏ والعجب أن الإمام الأَوْزَاعي، والحسن بن حَيّ، لا يشترطان النية في التيمم أيضاً كما في العيني، فقد سبقوا إمامنا أبا حنيفة في عدم اشتراط النية‏.‏

أما اشتراط النية في التيمم عندنا، فلأن الأرض ليست طهوراً بطبعها، وإنما هو بالجَعْل، كما قال صلى الله عليه وسلّم «جُعِلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً»‏.‏ وإنما يُسْتعمل الجعل فيما ينصرف الشيء عن حقيقته، فالأرض ليست بطهور في أصلها، وإنما جُعلت طهوراً لهذه الأمة كرامة لها، بخلاف الماء فإنه ليس طهوراً بالجعل، بل أُنزل على هذه الصفة كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآء مَآء طَهُوراً‏}‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 48‏)‏، فلا يحتاج فيه إلى النية، بل تقع به الطهارة بمجرد استعماله، نعم، لا يكون عبادةً بدون النية كما هو مُصرَّح في كتبنا، بخلاف التراب، فإنه ليس طهوراً بالطبع، فاحتاج إلى ضمّ النية ليظهر معنى الجَعْل‏.‏

وهذا كما شرط الشافعية النية للجمع عند الجمع بين الصلاتين، فإنه لو مضى وقت الصلاة الوقتية ولم ينو جمع التأخير، يكون فاسقاً عندهم، فلا بد له أن ينوي الجمع قبل مضي الوقت في التأخير، وقبل السلام في التقديم‏.‏ فكذلك شرطنا النية في التراب‏.‏ بقي النَّبيد، فلعلهم شرطوا النية فيه لأجل نقص في معنى الطَّهورية، فإنه لم يبق على الصفة التي أنزل عليه، وإن كان طهوراً وطاهراً‏.‏

ويقول العبد الضعيف‏:‏ معناه أن النَّبيذ ماءٌ مُطلق عندنا، إلا أنه ليس كالقَرَاح، فكأنه بين المُطلق والمقيد، وكثير من الحقائق ما يدور النظر فيها ولا يزال يتردد ولا يقنع إلا بعد إقامة المراتب‏.‏ فالنبيذ إن قلنا‏:‏ إنه ماء مقيد فلا يُناسب أذواقنا، وإن قلنا‏:‏ إنه مطلق فكذلك، فإنه ليس كالقَرَاح، فصار نظر إمامنا أنه أقرب إلى الإطلاق، فوضعه تحت المطلق وفوق المقيد، وشَرَط فيه النية إظهاراً لدنو رتبته، ولو علم الخصوم مُدْرَك إمامنا لما طعنوا عليه في هذه المسألة، وهذا كالحقيقة القاصرة تعسَّر عليهم دَرْجُها في الحقيقة المطلقة، وكذا في المجاز، فأقاموا المراتب، وجعلو فوق المجاز وتحت الحقيقة وسمَّوها‏:‏ حقيقة قاصرة‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن في الوسائل أيضاً نية عندنا ولو في الجملة‏.‏ ولو تعمقنا النظر فالنية مرعية في الوضوء من الماء المطلق أيضاً، فإنهم إن أرادوا بالنية الملفوظة والعبارة المخصوصة فلن يجدوا إليها سبيلاً‏.‏

وقد صرح ابن تيمية وغير واحد من العلماء‏:‏ أن التلفظَ بالنية لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم مدة عُمُره، ولا عن واحد من الصحابة والتابعين، ولا من الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى‏.‏ وإن أرادوا بها النية التي تكون قبيل الأفعال الاختيارية، فنحن وهم فيه سواء ولا ننكرها أصلاً‏.‏ والنية قبل الصلاة ليست إلا أن يعلم بقلبه أنه أيُّ صلاة يصلي، فكذلك في الوضوء‏.‏ ولا أرى أحداً من الحنفية أنه يتوضأ ثم لا يكون له شعور في نفسه أنه يتطهر أم لا، فالنية أمرٌ قلبي لا مَنَاص عنها في الأفعال الاختيارية‏.‏ وإن أرادوا بها زائداً على هذا القَدْر، فليس إليه إيماء في الحديث ولا حرف ولا شيء‏.‏

وجملة الكلام أن النية التي لا تصح العبادات والأعمال بدونها لا تزيدُ على ما قلنا‏.‏ وهي توجد في وضوء الحنفية والشافعية سواء بسواء، فأين الخلاف وأين الإيراد‏؟‏ اللهم أن يفرض كفَرَض- المنَّاطقة زيداً حماراً- أن رجلاً جاء وقد مَطَر السحاب من فوقه وابتلت أعضاء وضوئه، فإنه لم توجد منه تلك النية، فهل يُباح له يجتزىء بذلك الوضوء ويصلى‏؟‏ فلو كان الاختلاف في هذا الجزء الذي قلما يتفق أن يُبتلى به في عمره الأولى أن يفرزبالبحث عنه ويترك تحت مراحل الاجتهاد، ولا يدخل في مراد الحديث لئلا يصير مرادُه نَظَرياً بعدما كان بديهياً‏.‏ ولكن يُعلم من كلام الطرفين أنهم يزعمونه، كأنه مصرَّحٌ في الحديث، فيُلزِم كل واحد منهم الآخر أنه خالف الحديث مع أن الحديث لا مِسَاس له بموضع النِّزاع، كما ستعرف عن قريب إن شاء الله تعالى‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن الحديث إن قصرناه على العبادات كما يُعلم من كلام الطرفين، وعلى الثواب، كما يعلم من كلام فقهائنا، فنحن نلتزم أن الوضوء بدون النية لا ينعقد عبادةً‏.‏ أما أنه لا يصلح للشروع في الصلاة، ولا يقع مفتاحاً لها فلا نسلِّمه، فإنه أمرٌ حسي، ومعنى الطهورية فيه أظهر، فيقع المفتاحية بلا مِرية‏.‏ وإن ادعوا أن الضروري منه هو الذي يقع عبادة ولا تصح الصلاة إلا به، فذلك نداء من بعيد‏.‏ ثم إنهم إن أرادوا بالعبادة ما مر تفسيرها في كلام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، فعليهم أن يُقيموا عليه دليلاً، أن الضروري هو الوضوء بهذه الصفة‏.‏ وإن أرادوا بها ما يؤجر عليه فمسلم‏.‏ ونحن نلتزمه ونقول‏:‏ إنّ في وضوئنا أيضاً أجراً وإن لم يكن عبادة بالتفسير الذي مر، فإن القُرُبات والطاعات أيضاً عبادة، بمعنى أنها يؤجر عليها‏.‏

ثم نُورد عليهم سوى ما ذكر‏:‏ أنكم أوجبتم الدِّية في الخطأ مع أنه لا نية فيه‏.‏ وقلتم بطهارة الثوب ولا نية فيها أيضاً‏.‏ فما الفرق بين طهارة الأَنجاس والأحداث‏؟‏ حيث جعلتم النية شرطاً في إحداهما دون الأخرى، فأجابوا عن الأول‏:‏ أن الحديث إنما ورد في الخطاب التكليفي، وهو متعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير، دون الوضعي، وهو أن يكون هذا سبب ذلك أو شرطه، كالدُّلوك للشمس والقتل من الثاني‏.‏ وعن الثاني‏:‏ أنه من قبيل التُّروك دون الأفعال‏.‏ قلتُ‏:‏ وكلها تفلسف وأمارة عن عدم إدراك المراد وعدم إصابة المرمى‏.‏

هذا خلاصة كلام الأكثرين منهم، ويحوم حوله كلمات الباقين، والأمرُ بعد في الخفاء والذي أراه‏:‏ هو أن الحديث لم يَرِد في وجود النية وعدمها كما يُشعر به تفاريعهم‏.‏ وإنما ورد في بيان الفرق بين النية الفاسدة والصحيحة فقال‏:‏ «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» فهذه نية صحيحة‏.‏ وقال‏:‏ «ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها» فهذه نية فاسدة، فالحديث فصَّل بنفسه آخراً ما أجمله أولاً‏.‏ وصرَّح بأنه لم يرد في بيان حكم الأعمال التي فيها النية والتي ليست فيها النية، بل جاء لبيان منفعة النية الصحيحة ومفسدة النية الفاسدة، وللتنبيه على أن للأعمال ربطاً بالنيات، فلا يغتر أحد بحسن علانيته مع قُبح سريرته، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وليأتكم وهذا الذي يناسب علوم النبوة‏.‏

أما الكلام في الصحة، والبطلان، والجواز، والكراهة، فإنما هو وظيفة الاجتهاد‏.‏ وما يجبُ عليه التنبيه من جهة النبوة‏.‏ هذا لأن رجلاً يصلي طول ليله، ويصوم طول نهاره، ويجاهد بنفسه وماله، ويحج ويسعى، ومع ذلك لا يزن عمله عند الله جَنَاح بعوضة إذا كان لغرض من الأغراض الدنيوية، وهذا كله لفساد سريرته‏.‏ ويكون رجل آخر فلا يكون له عمل صالح يُذكر، فييأس من مغفرته، ثم تخرُج له بِطاقة وتُوزَن بسائر أعماله الطالحة فيزنها ويرجحها، وهذا لحسن طويته وطيب نيته‏.‏ حتى إن الأعمالَ قد تنقلب بالنيات حسنات، كما أنها قد تنقلب بها سيئات‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك الذين يُبدلُ ا سيئاتهم حسنات‏}‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 70‏)‏‏.‏

والحاصل‏:‏ أن بركة الأعمال ومحقها تناط بالنيات على نحو ما عند «ابن ماجه» في‏:‏ باب التوفي على العمل، يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفلُهُ فسد أعلاه»‏.‏ وإسناده ضعيف‏.‏ وكما في الحاشية‏:‏ الإناء يترشح، بما فيه‏.‏ والظاهر عنوان الباطن‏.‏ فتنوع الأعمال وتلوُّنها تدور بالنيات‏.‏ وليس عملٌ إلا وله صِبْغ بلون نيته؛ إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً‏.‏ فالنية الصحيحة مثمرة للبركات، وتوجب النمَّاء في الأعمال‏.‏ والفاسدة تمحو الأجور وتحبط الأعمال‏.‏ وفي مثل هذا قص الله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَنْ كَان يريدُ الحياةَ الدنيا وزينتَها نُوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبْخَسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار‏}‏ ‏(‏هود‏:‏ 15، 16‏)‏ فنعى على من كان نيته هكذا أنه قد حبط عمله‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كالذي ينفقُ ماله رئاء الناس ولا يؤمن با واليوم الآخر فثلهُ كَمَثَلِ صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صَلْداً‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 264‏)‏ ‏{‏ومثلُ الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللَّهِ وتثبيتاً من أنفسهم كمثلِ جنةٍ بربوة أصابها وابلٌ فآتَتْ أُكْلَهَا ضِعفين‏}‏ الآية ‏(‏البقرة‏:‏ 265‏)‏‏.‏

ولما انكشف الغطاء عن وجه المقصود، وظهر أن الحديث ورد في جميع أنواع الأعمال، ولم يختص بحكم دون حكم‏.‏ وإنه لم يتعرض إلى ما فيه نيته وما ليست فيه تلك، ولكنه جاء مادحاً لمن نوى نيةً حسنةً، وقادحاً فيمن نوى نيةً فاسدةً فحبط عمله، علم أن ما ليس فيه نية خارج عن متناول الحديث‏.‏ وأن الحديث لا مِساس له بموضع النزاع، فينبغي أن يفوض صحة الوضوء بالنية وعدمها إلى الاجتهاد‏.‏ وما يدلك على أن الحديث عام كما قلتُ ما قال البخاري نفسه باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحِسبة، ولكل امرىء ما نوى، فَدَخل فيه الإيمانُ، والوضوءُ، والصلاةَ، والزكاةُ، والحجُ، والصومُ والأحكام‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

ثم الحديث لما كان عاماً عندي فينبغي أن يكون التقدير أيضاً كذلك كالنماء، والزكاة، والعبرة، والثمرة، والحِسبة‏:‏ فمعناه، نماء الأعمال وزكاؤها وعبرتها وحسبتها بالنيات‏.‏ ولست أريد من العبرة والحِسبة الفقهي، لئلا يرجع الكلام إلى موضوعه بالنقض، بل أريد على حد قوله صلى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالخواتيم»، وفي لفظ‏:‏ «العبرة بالخواتيم» أو ما سواها من الألفاظ التي تدل على اعتناء جانب الموافق، وعدم البطلان بجانب المخالف‏.‏ وهذه الألفاظ كلها كذلك‏.‏ وكأن تقدير الألفاظ إليك بعد ما عرفت حقيقة المراد‏.‏ فهناك ثلاثة أشياء‏:‏ العمل، والنية، والغاية‏.‏ فأشار إلى الأول بقوله‏:‏ «فمن كانت هجرته» فالهجرة عمل، وإلى الثاني بقوله‏:‏ «إلى الله» فهو نية، وإلى الثالث بقوله‏:‏ «فهجرته إلى الله ورسوله» وهو غايته، وهكذا في الجملة الثانية‏.‏

الفرق بين القرينتين‏:‏

قد سبق إلى بعض الأذهان أن قوله‏:‏ «وإنما لكل امرىء ما نوى» مؤكد لقوله‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات» مع أنهما يفترقان من وجوه‏.‏ منها كما قال الشيخ السِّندي‏:‏ أن الجملة الأولى جملة عرفية تجربية وليست بتشريع‏.‏ أقول‏:‏ وله نظائر كقوله‏:‏ «لكل أمةٍ أمين، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»‏.‏ «ولكل شيء زينة، وزينة القرآن آخر البقرة»‏.‏ فكون الأمين في كل أمة وكون الزينة في كل شيء أمر يعلمه أهل العرف أيضاً ويستعملونه فيما بينهم‏.‏ ثم جاءت الشريعة ونبهت على أن تلك الحقيقة سرت إليها أيضاً، فدلت على أمين هذه الأمة‏.‏ وهذا مما لا يُعلم إلا من تلقائه على حد‏.‏ «وزينة القرآن» وهي لا تُقتنى إلا من جهته، فبيَّن أنها البقرة، وكذلك‏:‏ «الأعمال بالنيات» جملة يستعلمونها أهل العرف ويقوله‏:‏ هذه ثمرة أعماله يعني عملون كي بهل‏.‏5

والجملة الثانية‏:‏ «وإنما لكل امرء ما نوى» حكم من جانب الشرع وتشييدٌ لما جرى بينهم وتحقيقٌ لما اعتبروه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأولى علة فاعلية، والثانية غائية، ففي الأُولى بيان للنية وهي مؤثرة، وفي الثانية بيان للغاية والثمرة‏.‏ إلا أن الأغبياء جعلوا الغاية أيضاً علة فاعلية لفاعلية الفاعل، إلا أن يفرَّق بين الفاعلية للشيء وبين الفاعلية لفاعلية الفاعل للشيء‏.‏ وحينئذٍ وإن كانت الغاية فاعلية، لكنها لفاعلية الفاعل للشيء، دون الشيء نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ أن الأولى في حال الأعمال، والثانية في حال العالمين‏.‏ وقيل‏:‏ مفاد الأُولى ضرورة النية في الأعمال، فهي المدار لحبطها وعبرتها‏.‏ والثانية في تعيين المنوي، فإن لكل امرىء ما نوى، فلا بد أن يعين المنوي‏.‏

ثم ما المراد بقوله‏:‏ «ما نوى» هل المراد منه الغاية والثمرة‏؟‏ أو عين ما نوى‏؟‏ والأظهر عندي هو الثاني‏.‏ فكلٌ يجدُ في آخرته عينَ عمله وعين ما ينويه في دُنياه‏.‏ ولهذه الدقيقة ورد الجزاء بعين ألفاظ الشرط‏.‏ والناس لما لم ينتقل أذهانهم إليه شمروا للجواب عن اتحاد الشرط والجزاء، مع أن في الحديث أذان من الله ورسوله إلى من هاجر إليهما في الدنيا أنه يجدُ هجرته تلك بعينها في الآخرة‏.‏ ومن هاجر إلى دنيا أو امرأة لا يجدها إلا تلك ‏{‏وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏، ‏(‏الكهف‏:‏ 49‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا‏}‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 49‏)‏ فهذه حقيقة غَفَلَ عنها الناس، وفهموا أن في الدنيا أعمالاً وفي الآخرة ثمراتها‏.‏ ثم أشكل عليهم مسألة التقدير، وقالوا‏:‏ إن الأعمال لما كان من إقداره وتقديره، فترتب الجزاء عليها غير ظاهر‏.‏ وفيه نظم لي طويل‏:‏

وليس جَزَاءُ ذاك عينَ فِعَالِنَا *** وقد وجدوا ما يعملون وعوَّلوا

وفي الحَال نارٌ ما تورط ههنا *** ولكنَّ سِتراً حالَ سوف يزولُ وسنقرره إن شاء الله تعالى في مقامه‏.‏

هل يُشترط سُنُوح الجُزئيات لإحراز الثواب‏؟‏

فقوله‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات» يُشعر بكفاية النية الإجمالية، وقوله‏:‏ «إنما لكل امرىء ما نوى» يُشعر بتفصيلها‏.‏ فإنه إذا وجد ما نواه ولم يجد ما لم ينوِ، فقد لزم منه التفضيل‏.‏ والذي يظهر أن النية الإجمالية كافية لإحراز الثواب قطعاً ولا يجب سنوحها‏.‏ ألا ترى أن من ربط فرساً في سبيل الله يحصل له الأجر على روثه، وبوله، واستنانه، وريِّه، وعلفه، وشربه، مع أنه لم يَسْنَح له هذه الجزئيات عند ربطه في سبيل الله‏.‏ نعم، بسط النية دخيل في انبساط الأجر، فإن الأعمال وثمارها تابعة للنيات، فقبضها بقبضها وبسطها ببسطها‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الحديث فَرَّق بين النية الفاسدة والصحيحة نصاً‏.‏ أما كونها مجملة أو مفصلة فلم يعط فيه تفصيلاً من عنده‏.‏ وقوله‏:‏ «ما نوى» أيضاً مجملٌ ومعناه‏:‏ ما نوى نية إجمالية أو تفصيلية‏.‏

بقي أن القدر الضروري هو النية نفسها، أو يشترط شعورها أيضاً‏.‏ والأوضح أن النية في مرتبة العلم كافية، وهي التي تسبق الأفعال الاختيارية، ولا يشترط في مرتبة علم العلم‏.‏ وحينئذٍ فصورة الذهول ليست بمذكورة في الحديث‏.‏

وحاصله‏:‏ أن النية العرفية تكفي لإحراز الثواب، ولا يشترط شعورها وتقررها واستحضارها‏.‏ وهو العرف في هذه المواضع، ولا ينساق الذهن إلى المرتبة المنطقية، وهي علم العلم، فلا يُحْمَلُ عليها الحديث أصلاً‏.‏ بخلاف الخصوم، فإن كلامهم أقرب إلى مرتبة علم العلم‏.‏

تنبيه‏:‏ ومما ينبغي أن يُحْفَظَ ولا يُذْهَلَ عنه ما اختاره الغزالي فيما يتعلق بالثواب‏:‏ أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أُجِرَ بقدره، وإن تساويا فتردَّد القصدُ بين الشيئين فلا أجر‏.‏ وأما إذا نوى العبادة وخالطها شيء بما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف‏:‏ أن الاعتبار بالابتداء، فإن اعتراها فساد بعد الشروع- والعياذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر- فنرجو من رحمة الله أن يتغمده بغفرانه ولا يُحْبِطَ عَمَلَه‏.‏ فعلى المحسن الخاشع المريد وجهَ الله أن يصحح نيته، ويسعى فيهما عند الشروع في العمل، ويبذل في استقامتها جهده، ثم يسأل الله أن يقيمَه‏.‏ وهي غنيمة باردة للإنسان الذي خُلِقَ ضعفَياً، وصدق الله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 185‏)‏‏.‏

وثانياً‏:‏ أن الأجساد هي البادية في هذا العالم والنية مستورة بالمرة‏.‏ وينعكس الأمر في المحشر، فتكون النيات متبوعة والأعمال تابعة، وتكون هي البادية‏.‏ فيراها أهل المحشر كلهم عِيَاناً، كالأجساد في هذا العالم، فإن ظهورَ كل شيء ما ناسب مكانه ومحله، والمحشر هو محل ظهور النيات، فإن الله سبحانه لا ينظر إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم، ومن يرائي يرائي الله، ومن سمع سمع الله به‏.‏ فهذه كلها ظهور النيات‏.‏ وعلى هذا لو اشتمل عمل على ألف نية، تكون ألف عمل يوم القيامة، والله تعالى على ما يشاء قدير‏.‏

وقوله‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات» بحرف القصر في مقابلة من زعم عبرة الأعمال ونماءها بالنية الفاسدة، أو أن الأعمال لا تأثير فيها للنيات، فجيء «بإنما» على طريق قصر القلب، كما قال عبد القاهر في «إنما»‏.‏

ثم تحير الشارحون في وجه حذف البخاري قطعة من الحديث وهو قوله‏:‏ «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ» مع أنه ذكره من غير طريق الحُميدي مستوفى، وقد راجعت نُسخة الحُميدي- غير مطبوعة- فوجدت تلك القطعة فيها‏.‏ فعُلم أن التصرف من جانب المصنف رحمه الله‏.‏ ومحصل الجواب أن الجملة الأولى المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المذكورة تحتمل التردد‏.‏ فلما كان المصنف رحمه الله كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المُشعرة بالقُربة المحضة فراراً من التزكية‏.‏ كذا في «الفتح» والتفصيل في الشروح‏.‏

أما وجه مناسبة الحديث مع الترجمة فمن وجوه ذكرها الشارحون، وما يحكم به الخاطر الفاتر هو أن ورود الأفعال إنما هو بالوحي وصدورها بالنيات‏.‏ فالوحي مبدأ لوجودها، والنية مصدر لصدورها ونعني بورود الأفعال مبدئياً، أي الأوامر والنواهي‏.‏ فالأوامر والنواهي ليست إلا من تلقاء الوحي، فيكون مبدأ لها‏.‏ وكذلك صدورها لا يعتبر في الشرع بدون النية، فتكون مبدأ أيضاً‏.‏ فالأفعال ذو حظ من الطرفين، والعلاقة هي الوحي في جهة‏:‏ والنية في جهة‏.‏ فالوحي والنية علاقتان لها‏:‏ إحداها لوجودها، والثانية لصدورها والله تعالى أعلم‏.‏

ولنا أن نقول في وجه المناسبة، ولنمهد لذلك مقدمة‏:‏ إن كل شيء إنما يعرف بآثاره، فإن كانت آثارهُ حسنة، كان الشيء حسناً، وإن كانت قبيحة، كان الشيء أيضاً كذلك‏.‏ كيف لا وإنما الثمرة تنبىء عن الشجرة، ولذا تراهم عدوا الاستدلال من الأثر على المؤثِّر تحولٌ من الحُجة‏.‏

وبعد ذلك نقول‏:‏ إن أحوال العرب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم غير خافية من له شيء من الخِبرة، فإن ظلمات الكفر والطغيان قد كانت متراكمة على ضواحي الدنيا، لم يكن يُعرف الحق من الباطل، ولم يكن فيهم من كان يعبد الله على حرف، وكانت الكلمة الإبراهيمية قد انطمست، والملة الحنفية قد اندرست وانعدمت، ومصابيح الهداية أطفئت، ورياح العلوم الحقة ركدت، حتى إنهم كانوا عاجزين أن يفهموا أن لهم رباً، فنحتوا الأصنام وعبدوها‏.‏

أما أخلاقهم فلا تسأل عنها، كان سفك الدماء، وهتك الأعراض، ونهب الأموال من عظم مفاخرهم، يبولون كما يبول الإبل، يمشون وهم عراة، لا يفرقون بين المحارم وغيرها، يرثُ أكبر الأبناء زوجةَ أبيه، يئدون البنات، قاموا لعصبية الجاهلية، ودعوا لعصبة الجاهلية، وإذا هاج شر قَضم بعضهم كالفحل، وعاثوا في الأرض، حتى انقطعت السُّبُل والتجارة، وتعذر الخروج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا في تَرَحٍ وَمَرَحٍ، إذ بعث الله فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فلم يترك شيئاً من دينهم ودنياهم إلا وعلمهم، حتى سادوا الناس وملكوا الأرض، فضُرِبت بهم الأمثال، واهتزت الأرض من الأنوار الإلهية، وملئت عدلاً وأمناً، وأخرجت الكلمة شطأه حتى قامت على سوقها ليغيظ بها الكفار، فمن كان صاحب تلك الآثار وقريبها، ما ظنك به‏؟‏ لا ريب في حسن نيته وكونه موحى إليه، ومن هنا ظهرت المناسبة من وجه آخر‏.‏

باب‏:‏ حديث صلصلة الجرس

واعلم أن المصنف لما فرغ عن النية التي هي مبدأ الأعمال من جهة، شرع في الوحي الذي هو مبدؤها من جهة أخرى، وهو المقصود ههنا‏.‏ أما الوحي والكلام فيه فالحق أنه خارج عن موضوعنا كما ذكره الشيخ الأكبر في «الفتوحات»، أن ما لا يحصل لنفسه لا يُدْرِكُ كُنْهَه‏.‏ وذكر أنه دخل مرة في ملأ من الأولياء وهم في ذكر من المقام الموسوي، فَوَكَلوا الكلام إليه، فقال‏:‏ لا يحل لي أن أتكلم فيه، لأنه لا يحصل لي، فكذلك الوحي لا يُدْرِك كنهه إلا لمن اتصف به‏.‏ ولم يرو في هذا الباب عن السلف شيء كثير، إلا ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أن الوحي هو القذف في القلب- أي في الآية التي سنتكلم عليها آنفاً- ولم ينفصل الأمر منه، فإن القذف والقذف يتغايران فلا ندري ما كيفيته، فإننا أيضاً نقذف في قلوبنا‏.‏ وقد ذكر العلماء أقسامه‏.‏ والأولى عندي أن يقتصر على ما اقتصر عليه النص، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً‏}‏ إلخ ‏(‏الشورى‏:‏ 51‏)‏‏.‏

تفسير آية الوحي إجمالاً

واعلم أولاً أن الوحي على ثلاثة أنحاء‏:‏ الأول‏:‏ أن يُسخَّر باطن المُوحى إليه إلى عالم القدس، ثم يُلقى في باطنه، فلا توسُّط للملَك في هذا النوع‏.‏

الثاني‏:‏ ما يكون فيه دخل لحواس المُوحى إليه، فَسمِعَ فيه الصوت، وهو صوت الباري تعالى عند البخاري، بحيث لا يُشبه أصوات المخلوقين، ليس فيه مخارج ولا تقطيع‏.‏ وقال الشيخ المجدِّد السَّرهندي رحمه الله تعالى‏:‏ وليس بجزء ولا كل وليس بزماني ولا مكاني وسيجيء الكلام فيه‏.‏

والثالث‏:‏ أن يجيء المَلَكَ وهو على نحوين‏:‏

الأول‏:‏ أن يُسخر الملك باطن النبي‏.‏

والثاني‏:‏ أن يتمثل بنفسه في صورة البشر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً‏}‏ ‏(‏مريم‏:‏ 17‏)‏‏.‏

إذا علمت هذا فاسمع منا تفسير الآية‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ أي نبي ورسول، فالمراد منه هو النبي أو الرسول وإن كان اللفظ عاماً، وإنما لم يقل‏:‏ لنبي أو رسول صراحة، حذراً عن شبهة المصادرة على المطلوب‏.‏ فإنهم لما قالوا‏:‏ ‏{‏لولا يُكلمنا ا‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 118‏)‏، أجابهم بأنه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ‏}‏ وحينئذٍ لا يناسب وصفه بالنبوة أو الرسالة، لأنه أول النزاع، وهو اعتراضهم أن الله لم لا يكلم واحداً منا ويكلم هؤلاء فأجاب بنحو تعميم في اللفظ مماشاة معهم كما قال الرسل‏:‏ ‏{‏إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 11‏)‏ ‏{‏أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً‏}‏ والمراد منه عندي‏:‏ الإعلام بخفية، وهو النوع الأول، ويدخل فيه الإلهام والمنام‏.‏ ولا يقصر على الإلهام والمنام فقط كما قالوا‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن وَرَآء حِجَابٍ‏}‏ إشارة إلى النوع الثاني‏:‏ وهو ما تيسر له صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج ولموسى عليه الصَّلاة والسَّلام على الطور‏.‏

الكلام في أنه صلى الله عليه وسلّم هل جمع بين الرؤية والكلام ليلة المعراج

بقي الكلام في أن النبي صلى الله عليه وسلّم هل جُمع له بين الكلام والرؤية ليلة المعراج أو كانت الرؤية بدون الكلام والكلام من وراء حجاب‏؟‏ فالله أعلم به‏.‏ نعم، التفسير المذكور يُبنى على الفصل بينهما، فإن قوله‏:‏ ‏{‏مِن وَرَآء حِجَابٍ‏}‏ حينئذٍ يدل على أنه لم تكن وقت الكلام رؤية، بل حصل له الكلام بدون الرؤية‏.‏ وإن قلنا بالجمع له بين الرؤية والكلام أي كانا معاً، فالجواب على حديث مسلم أن الرؤية أيضاً كانت في الحجاب‏:‏ «عن أبي موسى‏:‏ أن حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»‏.‏

وفي «القاموس»‏:‏ سبحات وجه الله‏:‏ أنواره‏.‏ فعُلم منه أن الحجاب لا يُكشف، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه‏.‏ فالرؤية في الحجاب، والحجاب هو النور‏.‏

وعند مسلم «نورٌ أَنَّى أراه»‏؟‏ يؤيده فإنه لا ينفي الرؤية مطلقاً، ولكنه ينفي اكتناهه والإحاطة به والتحديق إليه ورؤيته متمكناً؛ فإن كمال النور يمنع الإدراك، وحينئذٍ لو كانت بدون الحجاب لأمكن أيضاً‏.‏ فالنبي صلى الله عليه وسلّم حصل له الرؤية ألبتة، ولكنها كانت رؤية دون رؤية، وهي التي تليق بشأنه تعالى؛ فإنه لا يمكن لأحد أن يتقرر بصره على وجهه تعالى، وهو العلي العظيم، فإن مهابة كبريائه مانعةٌ عن النظر إليه متمكناً، ولكنه رؤية دون رؤية، كما يتيسر لنا لأحد من الكبراء في الدنيا بطريق مسارقة النظر‏.‏

ولذا ترى الألفاظ فيها واردة بالإيجاب مرة والنفي أخرى‏.‏ ولا تريد أن تؤدي تلك الرؤية في العبارة إلا جاء التعبير هكذا موجباً مرة ونافياً أخرى‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما رميتَ إذا رميتَ ولكنَّ ا رمى‏}‏ ‏(‏الأنفال‏:‏ 17‏)‏ فجاء فيه النفي والإثبات معاً، فهكذا أمر الرؤية‏.‏ والحق أن المعاملات الربانية كلها لا توفيها الألفاظ كما هي، فيحدث هذا العُسر لضيق نطاق البيان‏.‏ فاختلاف الإثبات والنفي ليس تنافياً وتضاداً، بل كل منهما أحد طرفي المراد‏.‏ وإذا هو رؤية المتأدب، ورؤية بين رؤيتين، ورؤية دون رؤية‏.‏ فلو شئت أن تثبتها أثبتها، ولو شئت أن تنفيها نفيتها، لا بمعنى أنها لم تحصل، بل بمعنى أنها رؤية تتحمل الإثبات والنفي معاً‏.‏

وحينئذٍ لو كان لفظ مسلم‏:‏ «نُورٌ أَنَّى أرَاه» لصح أيضاً، فإنه رأى ربه ألبتة وكان نورانياً‏.‏ وقد وقع إطلاق النور عليه في القرآن أيضاً‏:‏ ‏{‏ا نور السموات والأرض‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 35‏)‏‏.‏ ولكن هذا أيضاً رؤية دون رؤية، فإن شئتَ أثبتها وقلت‏:‏ كان نورانياً حين رآه‏.‏ وإن شئتَ نفيتَ عنه وقلت‏:‏ «نور أنَّى أراه» فإنها ليست رؤية بتمامها وكمالها‏.‏ وفي لفظ‏:‏ «رأيت نوراً» وهذا أيضاً يحتمل المعنيين‏:‏ أي رأيت نوراً فحسب دون الذات، ومنعني النور عن رؤيتها‏.‏ أو رأيت ذاتاً منوراً‏.‏ وقد فهم الناس التقابل بين هذين الاحتمالين، وهما عندي واحد، فإن الرؤية التي حصلت له صلى الله عليه وسلّم كانت رؤية حقيقة وأمكن أن تكون بدون الحجاب أيضاً، إلا أن مهابة الكبرياء مَنَعَ التحديق إليه، فصارت بين بين، وكان كما قيل‏:‏

فبدا لينظرَ كيف لاحَ فلم يُطِق *** نظراً إليه وردَّه أشْجَانُه

ولكنه صلى الله عليه وسلّم تشرَّف برؤيته تعالى، ومَنَّ عليه ربُّه بها وكرَّمَه، وتفضَّل عليه بنوالِهِ، وأفاضَ عليه من أفضاله، فرآه رآه كما قال أحمد رحمه الله تعالى مرتين‏.‏ إلا أنه رآه كما يرى الحبيبُ إلى الحبيب، والعبد إلى مولاه، لا هو يَمْلِكُ أن يَكُفَّ عنه نظرَه، ولا هو يستطيع أن يُشِخص إليه بَصَرَه‏.‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‏}‏ فالزيغ‏:‏ أن يتغافل عن جمال وجهه، فلا يراه مستجمَعاً‏.‏ والطغيان‏:‏ أن يراه، ولكن يتجاوز عن حَدِّه، فيقع في في إساءة الأدب‏.‏ وهذا إثبات لرؤيته في غاية اعتدال‏.‏ فالحاصل‏:‏ أنها كانت بحيث لا يصفُها واصف، أمَّا أنَّها كيف كانت‏؟‏ فلا تَسأل عنها، فإنها كانت وكانت‏.‏

أَشْتَاقُهُ فإذا بَدَا *** أطرقتُ من إجلالِهِ

ولو كانت رؤية منام لما احْتِيج إلى تلك الاحتراسات‏.‏

ومن ههنا اختلفوا في نفس الرؤية لعامة المسلمين في الجنة‏.‏ هل تحصل برفع الحجاب‏؟‏ أو تكون في الحجاب‏؟‏ فجنح الشيخ الأكبر إلى أن رداء الكبرياء لا يُرفع في الجنة أيضاً، فإن المرئي في الرداء يُعَدُّ ذاتُهُ مرئياً عُرفاً، كما لو رأيت رجلاً في ملبوس، لا تقول إلا أنك رأيتَ ذاته حقيقة‏.‏ ولا يُشترط لرؤية الشخص رؤيته مجرداً عن اللباس‏.‏ وإنما يكون المراد منه ما هو المعروف، والمعروف فيها ما قلنا‏.‏ فكذلك الله سبحانه يكون مرئياً البتة، إلا أن رؤيته تكون في رداء الكبرياء عنده، وهي التي بَشَّر بها الله سبحانه عبادَه بالغيب‏.‏ وذهب العلماء إلى أنها تكون برفع الحجاب، على ما وقع من تشبيه رؤيته برؤية القمر ليلة البدر‏.‏ وهذا التشبيه لا يَرِدُ على ما اختاره الشيخ، كما سبقت الإشارة إليه، فإن المراد في الأحاديث من عدم الحجاب عنده، سوى حجابه الذي هو نورده ورداؤه الكبرياء، والرؤية مع الرِّداء رؤيةٌ للذات عرفاً وشرعاً بلا تأويلٍ وتأمل‏.‏

قلتُ‏:‏ وليس هذا اختلافاً وإنما هو اختلاف الأنظار، ونَظَرُ العلماء أحكم، ونظر أرباب الحقائق أسبق وألطف، فهم يُمَثِّلون على ما يظهر من ظاهر الشريعة، وهؤلاء يراعون ما كَشَفَ الله سبحانه عليهم من حقائق الشريعة وخبيثة أسرارها‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لكلِّ آيةٍ ظهر وبطن، ولكلِّ حدَ مطلع»‏.‏ والأمر إلى الله سبحانه‏.‏ وسيجيء بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى في موضعه في آخر الكتاب‏.‏

ولعله صلى الله عليه وسلّم تشرَّف بالإيحاء أولاً، ثم انتهى الأمر إلى الرؤية، وكانت عِياناً‏.‏ ولذا انتقل إلى تحقيقه وتثبيته في سورة النجم‏.‏ ولم يكن في الإيحاء أمر بديع في حقه، فذكره كأنه أمرٌ مفروغٌ عنه‏.‏ وإذا نزل إلى ذكر الرؤية أكَّده بأنها كانت بالفؤاد والعين معاً‏.‏ وكانت بدون الطغيان والزيغ‏.‏ وهذا على نحو ما وقع لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام‏:‏ الكلام أولاً ثم الرؤية ثانياً‏.‏ ولكنه رآه تعالى ثم غُشي عليه‏؟‏ أو لم يره وغَشِي قبله‏.‏ فأمرٌ يعلمه الله سبحانه، إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلّم رآه قطعاً ولم يُغْشَ عليه، ولكن خَرَّ ساجداً كما كان يليق بهذا الوقت، وبقي صاحياً لم يأخذه غَشْيٌ، مؤدِّياً وظيفة العبودية، مؤدَّباً في حضرة الربوبية‏.‏

فانظر كيف ذَكَرَ رؤيتَه حيث لم يجعلها مقصودة بالذكر‏؟‏ فكأنها أمرٌ مما لا يُنكر، إذ كان صلى الله عليه وسلّم دُعِي لذلك، وإنما اهتم برفع ما يمكن أن يقع فيه من اشتباهات، فأزاحها وأكدها بما لا مزيد عليه، فنفى عنه‏:‏ الضلال، والغِواية، والنُّطق عن الهواء، والزيغ، والطغيان، وذَكَرَ عِلْمَه، وحال معلِّمِهِ، والمباسطة بينهما، وأثبت له الرؤية بالفؤاد، والعين، وأنه قد تصادقا عليه، فما رآه البصر صدَّقه الفؤاد ولم يكذبه، ولا تردد فيه، وما ذاك إلا لأنها كانت رؤيةً بصريةً يَقَظَةً‏.‏ ‏{‏فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 185‏)‏ ولكن ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 40‏)‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏(‏أنواع الوحي‏)‏

ثم لنرجع إلى ما كنا بصدده ونقول‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏مِن وَرَآء حِجَابٍ‏}‏ إشارة إلى النوع الثالث مع قَسِيمَيْه‏.‏ فإن قلت‏:‏ إذا قال في الثالث‏:‏ ‏{‏فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآء‏}‏ فهذا وحي، والأول أيضاً كان وحياً، فلم يستقم التقابل بين الأقسام‏.‏ قلتُ‏:‏ بل الأول وحي، وهذا إيحاء، وبينهما فرق، فإنه جاءت المعهودية الشريعية في الوحي، وهو ما عُرِف نزولُه على الأنبياء، يَعْرِفون به شريعتهم، بخلاف الإيحاء، فإنه على صَرَافة اللغة كالنبوة والنبي، فإن النبوة على صرافة اللغة فيقال‏:‏ قد نبأنا الله من أخباركم، ولا يقال‏:‏ إنه نبي ذلك‏.‏ ولهذه الدقيقة نُسِب الإيحاء إلى غير الرسل أيضاً‏.‏ بخلاف الوحي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ‏}‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏النحل‏:‏ 68‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمّ مُوسَى‏}‏ ‏(‏القصص‏:‏ 7‏)‏‏.‏

فالإيحاء ههنا على اللغة بخلاف الوحي، فإنه لم يُستعمل إلا في شأن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام‏.‏ وأيضاً إنما صح التقابل بينهما لأن بينهما عموماً وخصوصاً‏.‏ فإنهما يشتركان في التسخير ويختلفان بمجيء المَلَك في الثالث دون الأول‏.‏

ولذا جمع ههنا بين الإرسال والإيحاء فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ‏}‏ إلخ‏.‏ ففي هذا النوع إيحاء أيضاً، إلا أنه بتوسط المَلَك‏.‏ والحاصل‏:‏ أن الله سبحانه لا يُكَّلَم مشافهة، ولا يليق بشأن العبد أن يكلِّمه عِياناً، فإما يكلمه خُفْيَةً، أو مِن وراء حجاب، أو بتوسط المَلَك‏.‏ أما الفرق بين الكشف والإلهام، فكما قال الشيخ المُجَدِّد السَّرْهَنْدِي‏:‏ إن الكشف أقرب إلى ما سمَّوه أهل المعقول بالحِسِّيات، والإلهام إلى ما سمَّوه بالوجدانيات، ولعل الإلهام أقرب إلى الصواب من الكشف، فإن الكشف‏:‏ رفع الحجاب عن الشيء، والإلهام‏:‏ إلقاء المضمون‏.‏

2- ‏(‏أحياناً يأتيني‏)‏ وفاعله باعتبار الظاهر هو الوحي‏.‏ ولكن المصنف ‏(‏رواه‏)‏ بوجه آخر عن هشام في بَدْء الخلق قال‏:‏ «كل ذاك يأتي المَلَك»‏.‏ ويُعلم منه أن الفَاعل بالحقيقة هو الملك‏.‏ والصلصلة قيل‏:‏ هي صوت المَلَك بالوحي، وقيل‏:‏ هي صوتُ حَفِيْفِ أجنحة المَلَك، وعليه اعتمد الحافظ‏.‏

2- ‏(‏مثل صلصلة الجرس‏)‏ والصلصلة‏:‏ صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أُطلق على كل صوت له طنين، ولا يَرِدُ أنه تشبيه محمودٍ بمذموم، فإن التشبيه لا يلزم فيه التساوي من جميع الوجوه، بل يكفي اشتراكهما في صفة‏.‏ ووجه الشَّبه ههنا هو تدارك الصوت بدون مبدأ ومقطع، فكما أن صوت الصلصلة والسلسلة متدارك ومسلسل، كذلك صوت الوحي يكون بسيطاً بدون مبدأ ومقطع‏.‏ وهذا بخلاف أصواب البشر، فإنه ينطوي على مبادىء ومقاطع، فهذا هو وجه الشبه‏.‏ وما ألطف ما قال الشيخ الأكبر‏:‏ إن صوت الباري جل ذكره يُسمع من كل جهة، ولا تتعين له جهة‏.‏ وصوت الصلصلة أيضاً كذلك، فوجه الشَّبه حينئذٍ مجيئُهُ من جميع الجوانب ومن جميع الجهات‏.‏ ونُقِل أنَّ موسى عليه السلام كان يسمع كلامه تعالى على الطُّور من كل جهة‏.‏

ولذا أقول‏:‏ إن الصلصلة هي صوت الباري تعالى على خلاف ما اختاره الشارحون‏.‏

واعلم أن ههنا مطلبان‏:‏

الأول‏:‏ ثبوت الصوت للباري تعالى ولا تردد لي في ثبوته، ولكن لا كأصوات المخلوقين سبحانه وتعالى‏.‏ واختاره البخاري أيضاً في آخر كتابه‏.‏

والثاني‏:‏ أن تلك الصلصلة هل هي صوت الباري عَزَّ اسمُهُ أم لا‏؟‏ وأختار فيه من عند نفسي أنها صوت الباري تعالى، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال‏.‏

والسِّرُّ فيه أن ذلك الصوت ثابت في ثلاثة مواضع‏:‏ عند صدوره من الحضرةِ الربوبية، وعند تلقِّي المَلَك، وعند إلقائه على النبي‏.‏ فمبدؤه من فوق العرش ومنتهاه إلى النبي، وليس مقصوراً على هذا الموضع فقط، فينبغي أن لا يُغْفَلَ عنه، فإنه يتحدس منه أنه شيء واحد من هناك إلى ههنا‏.‏ ويُستفاد من كلامهم أنهم قَصَرُوا ذلك الصوت على الموضع الأخير فقط، فحكموا عليه أنه صوت أجنحة الملائكة‏.‏ وفي حديث النَّواس بن سمعان عند الطبراني وأخرجه الحافظ في باب قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَعَةُ‏}‏ ‏(‏سبأ‏:‏ 23‏)‏ تحت حديث أبي هريرة ما نصه‏:‏ «أَخَذَتْ أهلَ السمواتِ منه رَعْدَةٌ، خوفاً من الله، وخَرُّوا سُجَّداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل فيكلمه الله بما أراد» اه‏.‏

‏(‏وبالجملة‏)‏‏:‏ الصوت هو صوت الباري تعالى‏.‏ ويجيء الكلام في ثبوت الصوت وسائر صفاته تعالى في آخر الكتاب مبسوطاً إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم إن هذا الصوت هل يبلغ إلى النبي بعينه كما يبلغُ إلى أهلَ السموات‏؟‏ أو يتلقاه المَلَك ويحفظه كما تُحفظ الأصوات في الألواح المعروفة اليوم‏:‏- بما يسمى بالفونوغراف 0‏؟‏ فأمرٌ يدور النظر فيه‏.‏ ولم يتعرَّض إليه الحديث‏.‏ فلذا اكتفيت بقدر ما أثبته الحديث، وكففت عما سكت عنه الحديث‏.‏ فإن قلتَ‏:‏ في إثبات الصوت تشبيهٌ‏؟‏ قلتُ‏:‏ كلا، فإنه صوتٌ بحيث لا يُشبه أصوات المخلوقين، فلا تشبيه‏.‏ والتنزيه عند أهل السنة ليس كتنزيه الفلاسفة‏.‏ وكذا التشبيه عندهم ليس كتشبيه المُشبِّهة‏.‏ بل نقول‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 11‏)‏ فنفى المِثليَّةَ وأثبتَ السمع والبصر بدون تأويل وتشبيه، فليس ربُّنا مجرداً عن السمع والبصر منزهاً عنهما كما زعمه عقلاء الفلاسفة، ولا مشبَّهاً سمعُهُ بسمعنا، وبصَرُهُ ببصرنا، كما توهمه جهلاء المشبِّهة، وإنما أمرنا بين التَّعطيل الصِّرف والتشبيه البحت كما قال الشيخ الأكبر‏:‏

فلا تَنْظُر إلى الحقِّ *** وتَعْرُوهُ عن الخَلْقِ

ولا تنظر إلى الخلق *** وتَكْسُوهُ سوى الحقِّ

ونَزِّهْهُ وَشَبِّههُ *** وقُمْ فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ

وترجمةُ قوله‏:‏ ونَزِّهْهُ وشَبِّهْهُ‏:‏ ‏(‏أور تنزيه كي جااور تشبيه دائى جا‏)‏

2- ‏(‏وهو أَشَدُّه عَلَيّ‏)‏ ولمَّا كان في هذا النوع تسخيرٌ لباطنِهِ وانسلاخٌ عن بعض أوصافه، كان شديداً من سائر أنواعه، وإن كان الوحيُ كلُّه شديداً‏.‏ وهو إشارة إلى النوع الأول‏:‏ ‏(‏فَبَفْصِم عني‏)‏ إي إذا انقطع الوحي فيُقْلِع ويَتَجلّى ما قد غشيتني من الشِّدة‏.‏ ‏(‏وقد وَعَيت عنه ما قال‏)‏ إنما جاء بصيغة الماضي إشارة إلى مزيد التثبُّت فيه، ودفعاً لِمَا قد يختلجُ، من أنه إذا كان مثل الصَّلصلة فلعله لا يَفْهَمُ معناه، أو يتعسَّر فهمُهُ، فأزاحه أنه كان يَعِيهِ ويحفظه بدون تردد، وإنما التشبيه لمعنى آخر‏.‏

2- ‏(‏وأحياناً يتمثل‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ إشارة إلى النوع الثالث‏.‏ ولعل العسر لو كان فيه لكان على جبريل عليه السلام، بعكس ما في الأول، لأنه هو التاركُ لصورته الأصلية، والنازلُ إلى الصورة البشرية، وترك النَّشأة هو الموجب للعسر والشدة‏.‏ وإنما لم يذكر الثالث لنَدْرَته وكونه مخصوصاً في الإسراء‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف تَمثُّلُه مع عِظَمِ جُثَّته‏؟‏ قلت‏:‏ هذا أمر لا ندخل فيه، ونؤمن حقاً بما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلّم وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً‏}‏ ‏(‏مريم‏:‏ 17‏)‏‏.‏

وسئل إمام الحرمين عنه في الطواف، فأجاب بما تفصيله من «الفتوحات»‏:‏ إن الأرواح على نوعين‏:‏ طيبة، وخبيثة‏.‏ فالأُولى‏:‏ الملائكة، والثانية‏:‏ الجِنّ، ثم جعل الشيخ رحمه الله الملائكة، والشياطين، والنفوس الناطقة الإنسانية عالماً برأسه‏.‏ وسمّاه‏:‏ عالم الأرواح، وقال‏:‏ إن أشياء هذا العالم تتمكن أن تتصور بصور متنوعة، وتتشكَّل بأشكالٍ مختلفة، وتَكْبُر ما كانت صغيرةً، وتَصْغُر ما كانت كبيرةً، بلا زيادة أمر ونقصانه، بخلاف الأجساد، فإنها لا تتمكن أن تتغير بتلك التغيرُّات، وهذه المسألة تسمى اليوم‏:‏ بتجسد الأرواح، وتروُّح الأجساد‏.‏

قلتُ‏:‏ وهكذا قال الصدر الشِّيرازي، وهو صوفي شيعي لا يَسُبُّ الصحابة رضي الله عنهم، ولكنه يُسيىء الأدب في شأن الأشعري والرازي، وذكر أن أرواح المرتاحين رضي الله عنهم، تقدر على ذلك‏.‏ قلتُ‏:‏ ولا أعلم أحداً من علماء الإسلام قال بتشكّل أرواح الإنسان غير الشيخ الأكبر‏.‏

2- ‏(‏فأعي ما يقول وقوله‏:‏ ‏(‏وعَيْتُ‏)‏ يدلّ الثاني على الفهم مع الصوت، والأول على الفهم بعده، كما هو الطريق المعروف عند مخاطبة رجل برجل‏.‏ والفرق ما أشرنا إليه‏.‏ ‏(‏لَيَتَفَصَّدُ‏)‏ مأخوذ من الفَصْد‏:‏ وهو قَطْع العِرق لإسالة الدَّم‏.‏ شُبِّه جبينُه بالعِرْقِ المفصود مبالغةً في كثرة العَرَق‏.‏ وفي قولها بيان لما رأته من الشدة، ودَلالة على كثرة معاناة التَّعب، لما في العَرَق في شِدَّة البرد من مخالفة العادة‏.‏ وقد وردت في بيان نقله أخبار، فلتُطْلَب من مواضعها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

باب

الحديثُ الثَّالث

3- ‏(‏الرؤيا‏)‏ قد كنتُ حققتُ في سالفٍ من الزمان أن الرؤيا ليست بنومٍ ولا يقظة، بل هي حاله متوسطة بينهما، ولذا لا تزال تتسلسل ولا تنقطع إلا بالنوم الغَرِق أو اليقظة، ثم اطلعتُ بعد زمن طويل على «دائرة المعارف» لفريد وجدي، فرأيت فيها تحقيق أهل أوروبا الآن بعين ما كنت حققته سابقاً‏.‏